السلام عليكم و الرحمة والبركة
كان شابا ذا بنية قوية وعضلات مفتولة الكل يخاف بطشه الكل كان يخاف المرور في طريقه لا يهاب أحدا ما إن يخرج من السجن حتى يعود إليه وجهه مملوء بالكدمات وآثار اللكمات من كثرة الشجارات التي يقيمها مع أمثاله من الشباب الطائش يضل متسكعا بين الشوارع وتجده أحيانا متكئا على حائط وهو يمسك سيجارته غير آبه بمن يمر أمامه ولا يعطيه أي بال..وأحيانا يجلس مع أصحابه يتجرعون كؤوس الخمر في الوادي المجاور للمدينة التي يقطنون بها فيعود إلى بيته في أواخر ساعات الليل ليخلد إلى النوم ليستيقظ في الصباح على الساعة العاشرة صباحا ..وكثيرا ما تأتي فكرة السطو على المنازل في رأسه عندما لا يجد ما يشتري به قارورة الخمر فتجده يترقب البيت أو القصر المستهدف ليوم أو يومين حتى تسنح الفرصة ويتسلل إليه ويسرق ما وصلت إليه يداه ثم يلوذ بالفرار ليبيع ما سرقه في السوق الفوضوي المجاور ليشتري به علبة السجائر وقارورة الخمر التي أدمن عليها ..وكثيرا ما يجد متسولا رث الحال يستعطفه فيعطيه كل ما في جيبه من أموال ..فهو يعيش بين تناقضات نفسه فأحيانا تغلب عليه نزعة الخير وأحيانا تغلب عليه نزعة الشر ...وقد يصادف أن يدخل بيتا لسرقته فيجد البيت لعائلة فقيرة فيخرج دون أن يأخذ منه شيئا فهو فقير ولا يحب أن يسرق بيت فقير مثله ..وأحيانا ما يسرق أحد القصور فيصادف في طريقه مسكينا معدما فيعطيه كلما سرقه...يسرق الأغنياء ليتصدق على الفقراء ..فكان يعطف عليهم لأنهم فقراء مثله ...وكان يدخل في معارك طاحنة هو في غنى عنها من أجل الدفاع عن ضعيف مسكين أحاط به اللصوص ليسلبوه ما يملك .رغم أنه هو نفسه لص مثلهم ولكنه لا يسرق الضعفاء والمساكين بل يسرق الأغنياء وإطارات البلد الذين سرقوا أموال الفقراء وحقوقهم بطريقة أخرى هي أقذر من الطريقة التي يستعملها هو في سرقتهم..ولكنه كان عزيز النفس لا يحمل ذلا ولا يطأطئ رأسه أمام أحد أيا كانت مرتبته أو وضيفته غنيا أو ذو مكانة عالية وتجده يسكت عن صفعة أو كلمة قاسية من عجوز لأنه لم يفسح لها الطريق ليس سكوت الخوف ولكن سكوت الاحترام للكبار فتجده يبتسم بلطف في وجهها معتذرا لها
نعم هذا حال رياض الملقب بالنمر لقوته و بطشه وشراسته عند الشجار كما لقب بالنمر لحدة عينيه وأثر جرح سكين تحت عينه اليمنى ..كما كان رياض يحب ابنة خاله مريم حبا شديدا ولكنه لم يصارحها بما يختلج في صدره لأنه خجول وكيف يصارحها وهو لا يملك ما تملكه من مكانة مرموقة في المجتمع ..فكيف للص حقير فقير مدمن خمر متسكع في الشوارع أن يطمع في حب فتاة مثقفة من أسرة غنية معروفة في المدينة ..وكانت مريم تعرف أنه يحبها من خلال نظراته وطريقة كلامه المتلعثمة معها ..وكثيرا ما كان يطأطئ رأسه عندما يلتقي بها في الشارع وهي عائدة من الثانوية التي تدرس بها ويحييها بكل أدب وكأنه ليس ذلك النمر الشرس في الشجار الذي يهابه كل سكان المدينة غنيهم وفقيرهم شريفهم ووضيعهم.
لقد كان رياض يحب مريم حبا عفيفا لدرجة أنه لم يصارحها بهذا الحب الذي يشتعل في صدره ولم يبح به لأحد خشية أن يؤذي مشاعرها وكانت هي تبادله نفس الشعور ولكنها لم تصارحه خشية أن يسمع والدها المتكبر فتقوم القيامة فكيف تجرؤ أن تحب رياض ذلك اللص الفقير وهم من عائلة مرموقة في المجتمع ولا تصاهر إلا من هو مثلها في الرفعة والمكانة الراقية..أما رياض فكان يجلس متخفيا أمام باب الثانوية التي تدرس فيها مريم حتى يحضى منها بنظرات بدون أن تراه أو تحس به ثم يعود إلى بيته مفكرا في أمره وما ألحقه به قلبه...وذات مرة وبينما هو متخفي أمام باب الثانوية ينتظر خروج مريم ليسرق النظرات كعادته وإذ بشاب يعاكسها ويريد منها أن تحدثه كعادة شبابنا أمام المدارس فخرج رياض من مخبئه وتوجه نحوه وبدون أي مقدمات طرحه أرضا وضل يلكمه حتى أغمي عليه ولم يجرؤ أحد على التقدم من رياض النمر فهم يخافونه فمعاركه لا تخلو من الضحايا ذو العاهات المستديمة .
كان رياض يتجرع سيجارته كعادته فتقدم نحوه أحد الشباب وأخبره بأنه يريد أن يحدثه في أمر هام يخصه فتوجها نحو المقهى المجاور وتقابلا على الطاولة وأمره أن يقول ما عنده فقال ذلك الشاب لرياض بأن مريم أصبحت تحب شخصا آخر اسمه ثامر ويدعى الغزال لجماله وبهاء وجهه وهو ينتظرها يوميا أمام الثانوية ليحدثها وهو من عائلة ثرية مرموقة يملك سيارة فاخرة وقصرا فاخرا وأضنها تبادله نفس الشعور فما إن أتم كلامه حتى قام رياض من مكانه وقلب الطاولة التي كانت بينهما وحطم كل ما وصلت إليه يداه من فناجين وقارورات في المقهى والناس تنظر إليه فزعة ولم ينطق صاحب المقهى بأي كلمة فهو يعرف النمر عندما يكون في حالة هياج وخرج مسرعا ولكن إلى أين فالوقت متأخر والطلاب قد خرجوا من المدارس ومريم قد وصلت إلى البيت...فلم يشعر إلا وهو يذهب نحو الحانة ويجلس في طاولة من الطاولات المنعزلة وبدأ يتناول الخمر القارورة تلو الأخرى ودموعه تسيل على خده لأول مرة في حياته وكل رواد الحانة ينظرون إليه باستغراب ماذا رياض النمر يبكي ؟ ماذا حدث ؟ ولكن الجميع لم يستطيعوا أن يسألوه لأنهم يهابونه ويخشون انفجاره في وجوههم ..وفجأة قام رياض النمر وقلب الطاولة بكل ما فيها رأسا على عقب وهو يصرخ ..أخبروني بربكم كيف للغزال أن يقف في طريق النمر؟ كيف حدث هذا ؟ وهو يتقدم بخطوات متثاقلة نحو رواد الحانة وهم يتراجعون واحدا تلو الآخر حتى خرجوا كلهم من الحانة ولم يبقى إلا رياض وهو يصرخ أخبروني بربكم كيف حدث هذا ؟ أخبروني أيها الجبناء .هل رأيتم غزالا يتحدى النمر ؟ هل حدث هذا في يوم من الأيام ؟ ثم بدأ يحطم كل ما وصلت إليه يداه. وهو يصرخ : سأفترس الغزال ..لم تتحداني الأسود حتى تتحداني الغزلان...
في الصباح توجه رياض نحو الثانوية التي تدرس فيها مريم وبدأ يراقبها حتى وصلت وإذ بسيارة أنيقة تتوقف أمامها وينزل صاحبها في غاية الأناقة والجمال ويصافح مريم وهي تبتسم ثم تحدث معها قليلا وركب سيارته وغادر المكان ورياض يشاهد الموقف فلم يشعر إلا وهو يلكم الحائط بيده حتى سالت الدماء من يده
عند خروج مريم من المدرسة توجه رياض نحوها وهو في حالة يرثى لها فما إن لمحته حتى ابتسمت في وجهه وقالت له : رياض أنت هنا؟ فلم يرد وقال لها من هذا الذي كنت تقفين معه قبل قليل ؟ فانطفأت ابتسامتها كشمعة هبت عليها الرياح الباردة وتلعثم لسانها وعرفت أن رياض كان يراقبها ثم استجمعت قواها وقالت : إنه ثامر خطيبي ..فقال رياض خطيبك ..وهل لك خطيب؟ وماذا عني ؟ الليالي التي سهرتها ؟ لقد احترق قلبي ولم استطع مصارحتك من أجل أن لا أجرح قلبك وكرامتك وشعورك ..أهذا هو حبي لك ؟ ولم يشعر إلا وعيناه تفيض بالدموع ...ولكن مريم عزمت أن تنهي هذه العلاقة مهما كلفتها من ثمن فقالت لرياض ...رياض أنا أحب ثامر أما عن سهرك الليالي فهذا شأنك وليس لي دخل فيه ...عندئذ رفع رياض يده وأراد أن يصفعها ولكنه أوقف يده في منتصف صفعتها وضرب بها شجرة كانت أمامه حتى سالت الدماء من يده بغزارة...ثم أراد الانصراف فقال لها ولأول مرة في حياته : مريم مهما أحبك ثامر الغزال وكل الناس فلن يبلغوا نصف ما أحببتك به ..تذكري هذا الكلام. وتذكري أنك كنت لا شيء من دوني ..ولكنني سأهدم كل ما بنيته ..سأعود بك إلى نقطة البداية ..ولو لم يطاوعني قلبي في نسيانك سأنتزعه وأدوس عليه ..وسأدفنك في مقبرة النسيان
في تلك الليلة قرر رياض أن يتسلل إلى قصر ثامر الغزال ولكن ليس للسرقة بل لأمر آخر ..فتوجه نحو القصر وتسلل داخله فوجده من أفخر القصور ...ووجد ثامر داخله مع مجموعة من صديقاته وهم يسكرون ويرقصون .. فأراد أن ينتقم من ثامر بقتله ولكنه تراجع فقد يلوث يديه بدم هذا الغزال ..لقد أراد افتراسه ولكنه تراجع عن ذلك وخرج من القصر مثلما دخل إليه.. لقد أراد أن يلتقي مع ثامر الغزال رجل لرجل ..ولكنه لم يجد فيه من صفات الرجال ما يدعي للقائه ..فكيف له أن يحط من قيمة النمر إلى صفة الغزال؟ ..وكيف سيكون الحوار بين رياض النمر و ثامر الغزال؟
جمع رياض أغراضه وعزم على الرحيل من هذا البلد فلم يبقى له شيء يستحق أن يقعد من أجله فحبيبته اختارت المال بدل الحب..اختارت الجمال بدل القوة والعزة ...نعم فهي تحبه وأحس ذلك من كلماتها ولكن إغراء المال والجمال كان كبيرا لدرجة لم تستطع مقاومتهما فاختارت أن تكون خليلة الغزال على أن تكون حليلة النمر ولكن الأيام كفيلة بأن توضح الفرق .الفرق بين الرجال ..بين النمر والقوة والعز والغزال والجمال والمال
سافر رياض إلى مدينة بعيدة وبدأ في العمل كما اعتزل الخمور والسرقات المتكررة وأصبح شابا صالحا ومكث عشر سنوات وعاد إلى مدينته وجد الأمور قد تغيرت ..كما وجد مريم قد تزوجت ثامر الغزال وتطلقت بعد أن أنجبت منه بنتا لأنها لم تقبل بوجود صديقات لزوجها الذي بدأ يضربها بسبب وبدون سبب خاصة عندما يكون ثملا ...وقد فقد والدها كل ما يملكه من أموال وأصبحت عائلته فقيرة.
بينما رياض يسير في أحد الشوارع شاهد إحدى النساء وهي تنظر إليه تراها من تكون ؟ نعم لقد عرفها إنها مريم بعد أن خط الزمن على وجهها كل قسوته .. لقد ذهب جمالها مثل ما ذهب مالها ..ذبلت زهرة شبابها في ربيع عمرها وتساقطت أوراقها قبل أوانها ...مر بجوار بعضهما ...وإذ بمريم تناديه رياض ..رياض ...نظر إليها ..ابتسم ابتسامة حزينة وتابع سيره ..نحو نهاية الشارع وهو يفكر في سخرية القدر ..بالأمس كان يخفق قلبه بمجرد رؤيتها واليوم تناديه ولكن النمر لم يجب ولن يجيب..بعد أن تغلب الغزال والمال على النمر والرجال ..كانت النهاية ....نهاية قصة النمر والغزال.