روى البيهقي والحاكم عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ( أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ ثُمَّ تَرَكُوهُ، فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: شَرٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ. قَالَ: كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟. قَالَ: مُطْمَئِنًا بِالإِيمَانِ. قَالَ :إِنْ عَادُوا فَعُدْ ) .
إن هذا السؤال من المصطفى صلواته وسلامه عليه ينبئنا عن أهمية ما يكون في قلب الإنسان من اعتقادات؛ إذ بها يُحكم بصلاح القلب وفساده، وعليها مدار السعادة في الدنيا والفوز في الآخرة.
وهو أيضاً دعوة منه صلى الله عليه وسلم للمسلم أن يحاسب نفسه، ويتفقد قلبه حتى لا يفاجأ بتسلل ما يؤثر على سلامة القلب وصحته إليه وهو لا يشعر بذلك؛ بسبب غفلة، أو شهوة ،أو شبهة.
إن كل ذي عقل سليم ممن هداه الله لدين الحق يسعى إلى السعادة في الدنيا والفوز في الآخرة.
وتحصيل ذلك مرهون بسلوك السبيل التي بينها المولى عز وجل في محكم كتابه، وسار عليها نبيه صلى الله عليه وسلم.
وسلوك ذلك الطريق يبدأ بإصلاح القلب؛لأن القلب " أَمِير الْبَدَن، وَبِصَلَاحِ الْأَمِير تَصْلُح الرَّعِيَّة، وَبِفَسَادِهِ تَفْسُد " يوضح ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( أَلاَ وَإِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ . أَلاَ وَهِىَ الْقَلْبُ ).
قال ابن رجب رحمه الله: " ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كلمة جامعة لصلاح حركات ابن آدم وفسادها؛ وأن ذلك كله بحسب صلاح القلب وفساده.
فإذا صلح القلب صلحت إرادته، وصلحت جميع الجوارح؛ فلم تنبعث إلا إلى طاعة الله واجتناب سخطه، فقنعت بالحلال عن الحرام.
وإذا فسد القلب فسدت إرادته، ففسدت الجوارح كلها؛ وانبعثت في معاصي الله عز وجل، وما فيه سخطه، ولم تقنع بالحلال؛ بل أسرعت في الحرام بحسب هوى القلب وميله عن الحق " .
وإن السعادة في الدنيا مرهونة باتباع هدى الله سبحانه وتعالى؛ كما قال تعالى: (( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى )) [طه124].
قال في أضواء البيان: " أي: فمن اتبع منكم هداي أي: من آمن برسلي، وصدق بكتبي، وامتثل ما أمرت به، واجتنب ما نهيت عنه على ألسنة رسلي، فإنه لا يضل في الدنيا؛ أي: لا يزيغ عن طريق الحق؛ لاستمساكه بالعُروة الوثقى، ولا يشقى في الآخرة؛ لأنه كان في الدنيا عاملاً بما يستوجب السعادة من طاعة الله تعالى وطاعة رسله ".
إن القلب إذا صلح أحب الله وأحب ما يحبه الله، وإذا كان كذلك ذاق حلاوة الإيمان.
كما قال صلى الله عليه وسلم: ( ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِى الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِى النَّارِ ).
ومعنى وجود حلاوة الإيمان هو استلذاذ الطاعات، وتحمل المشقات فيما يرضى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وإيثار ذلك على عرض الدنيا، رغبة في نعيم الآخرة، الذي لا يبيد ولا يفنى .
ومتى وجد القلب حلاوة الإيمان فقد سلم من مرض الأهواء المضلة والشهوات المحرمة، وذلك هو القلب الصالح الصحيح من الأسقام؛ لأن القلب إنما يحرم من حلاوة الإيمان بسبب غلبة المرض عليه.
إن استلذاذ القلب للطاعات وتحمل المشقات فيما يرضي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم دليل على قوة الإيمان.
والثقة فيما عند الله، وشدة الخشية منه سبحانه، والشعور بالسعادة والغنى، والسلامة من الأكدار ومنقصات عيش الحياة الدنيا، وذلك لعمر الحق هو السعادة الحقة .
أما أن الفوز في الآخرة مرهون بصلاح القلب، فدليله قوله تعالى حكاية عن إبراهيم : (( وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ )).
فقد دلت هذه الآية على أنه لا ينفع عند الله يوم القيامة إلا القلب السليم.
كيف نعرف القلب السليم من القلب الفاسد؟.
إذا عرفنا أن القلب السليم هو الذي ينفع عند الله فعلينا أن نعرف متى يكون القلب سليماً ومتى يكون فاسداً؟ متى يكون صحيحاً ومتى يكون مريضاً؟.
لقد أجاب ابن رجب رحمه الله على هذا السؤال وبين لنا الفرق بين القلب السليم والقلب الفاسد فقال: إن القلب لا يكون سليماً إلا إذا كان سليماً من إرادة ما يكرهه الله ويسخطه، ولا يكون فيه سوى محبة الله وإرادته، ومحبة ما يحبه الله وإرادة ذلك، وكراهة ما يكرهه الله والنفور عنه.
والقلب الفاسد: هو القلب الذي فيه الميل على الأهواء المضلة والشهوات المحرمة، وليس فيه من خشية الله ما يكف الجوارح عن اتباع هوى النفس؛ فالقلب ملك الجوارح وسلطانها، والجوارح جنوده ورعيته المطيعة له المنقادة لأمره.
فإذا صلح الملك صلحت رعاياه وجنوده المطيعة له المنقادة لأوامره، وإذا فسد الملك فسدت جنوده ورعاياه المطيعة له المنقادة لأوامره و نواهيه.
وبهذا نعرف أن المتبعين للشهوات المحرمة والأهواء المضلة هم مرضى القلوب يحتاجون إلى علاج يداوي قلوبهم، ويعيد لها صحتها لتستقيم جوارحهم.
وهو ما يوجب على الدعاة والمربين أن يركزوا جهودهم على إصلاح القلوب إذا أرادوا أن ترجع الأمة إلى سالف عهدها، وتستقيم على سبيل ربها، وهدي نبيها.
إن عدم العناية بإصلاح القلوب ابتداء هو ما يفسر لنا انتكاس بعض المهتدين، وحورهم بعد الكور؛ لأن قلوب أولئك لم تذق حلاوة الإيمان؛ لأن " حَلَاوَة الْإِيمَان لَا تَدْخُل قَلْبًا فَتَخْرُج مِنْهُ " .