الجزء الأول : تمهيد
المثقف حسب وجهة نظر بسيطة خالية من التعقيد هو نموذج في محيط و بلغة أهل المخابر العلمية هو بمثابة الأنبوب الشاهد إن صحّ التشبيه.
المثقف هو سفير العقل الجماعي يتميز بالشفافية المطلقة و هذا من أهم ما يميزه عن السياسي . نعم هو جد متفتح على العالم ، لكن اختياراته واضحة و قناعاته وفكره تترجمهما سلوكياته في أدق تفاصيل حياته اليومية الروتينية .
في بريطانيا مثلا يستحال أن يركب تاجر يحترم ثقافة بلده سيارة من نوع مرسيدس لأن العقل الجماعي عندهم يربط بين هذا النوع من السيارات و بين الأستاذ .
نعم جلسة واحدة قد لا يتفوه فيها المثقف بكلمة كافية بأن تعرفك عنه بالكثير ، عنوان الجريدة التي يحملها ... نوع قلمه ، ماركة سجائره ... تسريحة شعره ( إن وجد طبعا ) ، بدلته ... نعم كل شيء محسوب على المثقف و لا مجال أمامه للتهاون لأنه سفير الثقافة و الأنبوب الشاهد .
بالأمس القريب لعب المثقف العربي دورا ريادية دفاعا عن قضاياه ربما تساهل مع التفاصيل ربما أيضا فرض عليه الظرف التاريخي أدوارا أخرى ، أدوارا متعلقة بتحرير الأوطان ... توسط الجماهير الغاضبة خاطبها ، تحمّس لحماسها ... حرضها و قاد مظاهراتها ، كانت نقاط التفريق بينه وبين السياسي متلاشية ظاهريا إذاك .
لكنه لم يغفل عن الثقافة عن الهوية عن ماهية الوجود على الأقل في عقله الباطني كان مدركا أن المعركة الحقيقية هي إعادة بناء كيان الفرد قبل الدولة ... نعم نالت شعوبنا العربية إستقلالها الإفتراضي من القوى الخارجية و رجع المثقف لدوره الأصيل كان لايزال متحمسا مشبعا بروح النضال و الثورة ... اعتقلوه سجنوه عذبوه .... لكن هيهات فهو مدرك للإختياراته و قناعته ...
أحبه الناس و أقسمت الأمهات أن تلدن مثله وكلكم يعرف خصوبة إنتاجنا للبشر.
فجأة حلّ الصمت وغزت ثقافة الإستهلاك نمط حياتنا وانخرط المثقف المتعب في لعبة الشراء بالتقسيط . لا تضحكوا نعم لعبة ليست للصغار ... فمن حقه أيضا أن يمتلك سيارة و منزلا و مستلزمات عدة ... انخرط المثقف في العولمة الإقتصادية بسرعة مذهلة و أصبح عنده كرش كبيرة شوهت منظره العام ، كرهته الجماهير و نسته سلطة القمع فهو مدان و مهموم و دخله المادي على علاقة طردية مع حاجياته فقد أحكمت عليه السيطرة بمنطق بسيط جديد.
المثقف في أيامنا هذه أصبح مجترا للكلمات، كلمات مقتضبة جافة فارغة مناسباتية لا روح فيها تشترط الصالونات و المكيفات كي تجود علينا .
المثقف اليوم أصبح كالكشك متعدد الخدمات لا شيء يميزه عن مثقف الغرب هو صورة مشوهة منه ، يقلده في كلامه في لبسه ... حتى في القنوات الفضائية تجده مولعا بكل ما عنده مصدقية عند المثقف الغربي . خسر مثقنا جماهيره خسر سجنه حتى سجانه ماعدا يطيق رؤيته ... خسر هويته ودوره و قبل هذا خسر نفسه .